الشعراء وصراع الآيديولوجيا
دورة جديدة من مهرجان المربد الشعري
انعقد المربد في دورته الأولى في عام 1971 في البصرة، بوجود الجواهري والبياتي وسعدي يوسف وأحمد عبد المعطي حجازي وكبار شعراء العربية ونقادها، وهو أول مهرجان شعري عربي تلتقي فيه كل هذه النخب.

لا أظن أن العرب أتقنوا صناعة حقيقية، وصدَروها كصناعتهم للشعر، فهو ــ لديهم ــ جنسٌ أصيل، وجزءٌ أساس من وجودهم، حتى وصل في مرحلة من المراحل أنْ يكون الشعر تعويضاً عن الخسارات والنكبات التي تمر به الأمة، فالعرب حين يلجأون إلى البيت الشعري، كأنهم يلجأون إلى البيوت التي ينهبها المعتدون أو المحتلون، فيشعرون بالطمأنينة حين يسكنون البيت الشعري، فيما بيوتهم نهب الريح.
لقد بقي الشعر «ماركة» عربية أصيلة، يصعد سوقها في «بورصة الجمال» مراراً، ولكنَها تنزل أيضاً مراراً، حسب أمزجة الناس، وزحف القوى الناعمة الأخرى على الشعر، ولكن بقيت مؤتمرات الشعر ومهرجاناته الأكثر تأثيراً، وجذباً للنظر، والمراجعة، والتساؤل، ومن أهم هذه المهرجانات ــ كما أظن ــ مهرجان المربد الشعري في العراق.
* تابع - 2 (2) أتذكر لقطة في آخر مربد في زمن النظام السابق أواخر عام 2002 فبعد أنْ ينهي الشاعر قراءة قصيدته عليه أنْ يسلمها إلى الناقد عبد الجبار داود البصري، وهذا تقليد اعتدنا عليه، لأنَ القصائد ستُطبع في كتاب يسمى «ديوان المربد» يُوزَع في المربد القادم، وكان هناك موظف مخصص لجمع النصوص، وقد قرأ الشاعر «كزار حنتوش» - وكان من الشعراء الصعاليك المهمين - نصوصه ونزل، فذهب إليه ذلك الموظف ليأخذ قصائده فصاح بوجهه كزار حنتوش «منو راح يطبع ديوان المربد ؟؟ بوش؟؟» وقد حلَ الرعب في باحة القاعة، لأنَ الأميركان قد وصل أسطولهم إلى الخليج، ولم تبق إلا أشهر معدودات ليدخلوا بغداد، فيما بغداد وحكومتها تتوعد بدفن الأميركان على أسوار بغداد، فكيف بشاعرٍ يصيح عالياً ويتساءل ساخراً هل سيطبع بوش أعمال المربد هذا لتوزع في المربد القادم؟؟. سقط النظام ودخل الأميركان أسوار بغداد دون أنْ يُدفنوا فيها كما توعدهم النظام وتوعدتهم قصائد المربد الأخير وحلَ الصمت.
انتهى حكم المركزيات وتهشم، وبتهشمه انتقل المربد إلى البصرة، فقد أصرَ أدباؤها في أنْ يكون المربد بمدينتهم فقط، وكانت هذه الخطوة الأولى للتحول في الإدارة الثقافية، ذلك أن وزارة الثقافة سلَمت أمورها للأدباء، ولم تعد ذلك الآمر الناهي، فاستمر أدباء البصرة مع وزارة الثقافة مع شخصيات ثقافية بإقامة مهرجان المربد كل عام.
لكن الصورة تغيَرت كثيراً، فعلى مدى 7 سنوات تقريباً لم تطأ أقدام العرب جميعاً أرض المربد، واتخذوا جميعهم موقفاً بمقاطعة أي نشاط ثقافي، وتحوَل المربد إلى مهرجان محلي، نرى نفس الوجوه في الداخل، مع تغيرٍ وحيد، وهو حضور شعراء وأدباء عراقيين مغتربين فبدأنا نرى فوزي كريم، وعبد الكريم الكاصد، ومحمد سعيد الصكار، وصادق الصايغ، عدنان الصايغ، وياسين النصير وعشرات غيرهم «انتهى زمن الأدلجة للمربد»، فالشعراء أحرار فيما يكتبون، ويقولون، وبقي تجمعهم هذا حصناً يقيهم من الطائفية، والمحاصصة، فالمربد وشعراؤه ظلوا اللقاح الأكثر نجاعة ضد فايروس الطائفية، والمناطقية، وبقي الشعراء والأدباء يحجون إلى البصرة كل عام، حتى استمالوا زملاءهم العرب الذين بدأوا يتوافدون على البصرة وبغداد، لأن الصورة تكشفت لهم بشكل واضح وجلي.
لقد انقطع المربد في البصرة حين أقيم في عام 2005 عن بقية المرابد السابقة وذلك من خلال إعطائه تسلسل رقم (1) وبهذا صنعوا فاصلاً تاريخياً عن بقية المرابد، إلا أن الزملاء في البصرة ومنذ عامين قرروا أن يستأنفوا لحظة المربد الأولى التي ترأسها الجواهري فأعطوه رقم (32) دورة كاظم الحجاج، فيما كانت هذه السنة الدورة رقم (33) دورة حسين عبد اللطيف.
ولكن ما يلاحظ على دورات المربد الأخيرة هو عدم تدوين النصوص بديوان خاص يطبع تحت مسمى أعمال المربد الشعرية والنقدية منها، وهذا خلل كما اظن لأن التوثيق مهم في هذه الحالة، وما يلاحظ أيضا هو غياب أسماء الشعراء الشباب من الدعوات ــ في الأعم الأغلب ــ وهذه ظاهرة غير صحية استبعاد الصوت الشبابي من الإسهام بمهرجان مثل المربد، ولكن يحسب لهذا المهرجان هو التفاته للأسماء الشعرية وتسمية المربد بها وجعل المحاور النقدية حول شاعر من الشعراء المؤثرين بالثقافة العراقية، وخيراً فعل أصدقاؤنا في البصرة هذه السنة حين جعلوا دورة المربد لهذا العام باسم الشاعر الراحل «حسين عبد اللطيف»، فهو شاعر مؤثر في المناخ الكتابي لأدباء العراق وللبصرة على وجه التحديد.
* شاعرٌ في دنيا العرب..
"الشرق الأوسط"الأربعاء - 25 شعبان 1440 هـ - 01 مايو 2019 مـ
رقم العدد [ 14764]
* شوقي بزيع :قلّ أن أثار شاعرٌ في دنيا العرب ما أثاره نزار قباني خلفه من غبار التساؤلات والسجالات النقدية الموزعة بين التأييد والرفض، الابتهاج والاستنكار، الثناء المفرط والتبخيس المفرط. فمنذ مجموعته الأولى «طفولة نهد»، وحتى آخر أعماله، لم يترك الشاعر الخيار لأحد من القراء أن يظل حيادياً إزاءه، ولم يكف عن تحريك المياه العربية التي كاد الركود المزمن يحولها إلى مستنقع واسع من التأسن والبلادة والمراوحة القاتلة. صحيح أن قباني لم يستهل مغامرة الحداثة الأولى التي خاضها جبران خليل جبران وشعراء المهجر وأدباؤه بجرأة نادرة، وصحيح أنه لم ينخرط في صفوف الآخذين بناصية الحداثة الثانية التي رفع لواءها السياب ونازك والبياتي وأدونيس وآخرون، ولكن الصحيح أيضاً أن قباني قد اجترح حداثته الخاصة التي لا تمتح من مياه الآخرين، وأنه لم يكن مجرد حادثة عابرة على طريق الشعر، بقدر ما كان أحد الرواد القلائل الذين وسّعوا ذلك الطريق إلى حدوده القصوى، وأخرجوا هذا الفن من عزلته المتفاقمة ليعود على يديه ديوان العرب وخبزهم اليومي ومثار افتتانهم باللغة
1- ومع أن البعض أسرفوا في تسفيه تلك الظاهرة الفريدة التي مثّلها الشاعر على امتداد حياته، واعتبارها لا تعدو كونها عزفاً على وتر الغرائز المكبوتة، أو حطاً من مكانة المرأة وتوظيفاً لجسدها في بازار الترويج النجومي للذات، أو تلهياً عن كشوف الأعماق بقشور الجمال المسطح، فإن المرء ليتساءل، وبعد أكثر من عقدين على غياب الشاعر، هل كان نزار قباني ليقف ثابتاً في وجه الزمن، لو لم يكن قد زوّد الحياة والشعر العربيين بما يحتاجانه من عدة ملائمات لافتراع الأمل، والتحرر من المكبوت، ومواجهة القمع الذكوري.
وهل انتزع الشاعر مكانته المميزة من جرأة الموضوعات التي تناولها، أم من عناصر أخرى متصلة بلغته وأسلوبه؟ وأيهما الأهم، تالياً، دعوته إلى تحرير المرأة من أقبية التهميش وسجون التقاليد الموروثة، أم دعوته إلى تحرير اللغة من ربقة التنميط، وخواء التكلف، وبلادة القواميس؟
سيكون من الصعوبة بمكان أن تحيط هذه المقاربة العجلى بتجربة شاعر ريادي تأسيسي من وزن نزار قباني، إلا أن ذلك لا يحول دون مقاربة هذه التجربة من وجوهها الإيجابية الكثيرة، دون أن يعني ذلك غضاً للنظر عن بعض الهنات السلبية التي لا يمكن لأي شاعر مهما أوتي من الموهبة والإرادة أن يتجنب الوقوع في مزالقها. وأستطيع القول بداية إن شعر نزار لم يكن وليد تصاميم جاهزة أو تصورات مسبقة حول اللغة الجزلة والإيقاع الفخم والفحولة التعبيرية، بقدر ما هو تعبير صادق عن التحولات العميقة التي أصابت المجتمع العربي في حقبة ما بعد الحربين الكونيتين، وفي خضم معارك الاستقلال والتحرر الوطني.
وهو قد أحلّ التهليل للحياة وتمجيدها محلّ الغرق في وهدة اليأس والتفجع، وأبعد الكتابة عن التجهم العقائدي والرصانة الفظة والاحتفال التعزيمي بالموت، ليجعلها تمجيداً للحياة واحتفالاً أبيقورياً باللذة وإعلاءً للجسد بوصفه الممر الإلزامي لمنع الحب من التحول إلى فاجعة «عذرية» أو مرض نفسي. ولعل الثورة النزارية الجسدية تتصادى من هذه الزاوية مع ما حدث قبيل ذلك في الغرب من تحولات في نظام القيم، ومن إعلاء للشهوة الجسدية. وهو ما يشير إليه دينيس دي رجمون في كتابه الشهير «الحب والغرب»، حيث يرى أن الحرب العالمية الثانية قد أدت إلى انكسار المفهوم التقليدي للعائلة والتضامن الأسري، وإلى تراجع الحب البطولي الفروسي لمصلحة المتعة الجسدية والشغف الأفروديتي بالملذات.
2- وقد تقودنا هذه المقاربة إلى الاستنتاج أن شعر نزار قباني يقع في الخانة المضادة لما يمثله سعيد عقل، على مستويات الأسلوب واللغة والدلالة الاجتماعية والرؤية إلى العالم. فشعر نزار الذي يحثٌّ على التحرر والانفتاح، ويتجاوز الخطوط الحمراء في العلاقات بين الجنسين، هو شعر مديني بامتياز، بقدر ما هو تعبير عن حاجة البورجوازية العربية الصاعدة إلى الخروج من شرانق التقوقع «الريفي» والمثاليات الرومانسية للإقطاع القديم. في حين أن شعر صاحب «قدموس» يبدو وكأنه ينتمي إلى زمن سابق متصل بعالم البراءة الريفية والإقطاع الفروسي، حيث الأخلاق نابعة من قيم الشجاعة والكرم والشهامة والنبل من جهة، وحيث المرأة وجود أثيري تهويمي لجسدٍ يقع فوق السرير «وقوع الهنيهة في المطلق». وهي بالمقابل وعدٌ مستبعد ومخترقٌ بنصال الموت، أو جسدٌ لم يُخلق «ليُشمّ ولا ليُضمّ»، ولكن «كي يبقى حلماً يُحلمْ». وفي حين تضيّق مثالية سعيد عقل الخناق على معجمه التعبيري الذي لا يُبقي في دائرة الشعر سوى الكلمات «النبيلة» والمنمنمات اللفظية المتخيّرة بعناية، يشرّع نزار قباني أمام الشعر كل مفردات المعاجم وكل مصطلحات اللغة اليومية، حيث لا تمييز بين هو شعري وما هو نثري إلا من خلال السياق التعبيري، وطريقة المؤالفة بين الكلمات.
إنه لمن الظلم بمكان أن يحاول بعض الشعراء والنقاد المعاصرين نفي صفة الحداثة عن نزار قباني أو طرده من جنتها المزعومة. فالحداثة لا تنحصر في تعريف واحد. كما أن الوصول إليها قد يعتمد طرقاً شتى، يقوم بعضها على المساءلة المعرفية للوجود والأشياء، وبعضها على تجاوز المنظور القديم للبلاغة، وبعضها الآخر على الكشف الرؤيوي الصوفي. فيما تقوم حداثة نزار على خطين متلازمين هما: تحرير لغة الشعر من صنميتها وتكلسها المرَضي، وتحرير الجسد المغلول من مكبوتاته وقيوده المرهقة.
وهو ما تعكسه بعض النصوص التي تجمع بشكل لافت بين أنوثة المرأة وأنوثة اللغة «تتحضّر حين أحبك آلاف الكلماتْ\ تتشكل لغة أخرى\ تسرع أنفاس الساعاتْ\ ترتاح حروف العطفِ وتحْبل تاء التأنيثِ\ وينبت قمحٌ ما بين الصفحات». وليس من باب الإنصاف أن يرى البعض نزار بوصفه نسخة عربية من «كازانوفا»، أو «شهريار» جديداً من الانتشاء بالنفس والخيلاء السادي، مستندين إلى أبيات له من مثل: «طرزتُ من جلد النساء عباءة\ وبنيتُ أهراماً من الحلمات\ مارستُ ألف عبادة وعبادة\ فوجدتُ أفضلها عبادة ذاتي»، متناسين أن «أنا» المتكلم لا تعبر بالضرورة عن الشاعر كفرد، بل عن نماذج إنسانية مختلفة، من بينها بعض النخاسين الذين يرضون نزوعهم الطاووسي عبر تسليع المرأة، وتحويلها إلى مجرد أداة للمتعة العابرة. والذين يصوبون على الشاعر من خلال إلحاحه على مفاتن المرأة الجسدية و«تهتكه» الإباحي يتناسون أن تراثنا العربي، بشقيه الشعري والنثري، حافل بالنصوص الجنسية الصريحة، وهو لا يتورع عن تسمية الأشياء بأسمائها دون محاذير أو توريات. فضلاً عن أن انتزاع المفردات الجسدية، كالردف والنهد والخصر والعنق والساقين والشفتين، عن سياقاتها سيفعل في النصوص ما يفعله الديناميت في البحر، بحيث تطفو هذه المفردات كالسمك الميت على سطح الكتابة.
3- لا يبدو الشعر عند نزار قباني، من جهة أخرى، وليد احتكاك اللغة بنفسها، كما عند البعض، بل هو نتاج احتكاك اللغة بالواقع وبلحم الحياة الحي. كما إن الصورة عنده تمتلك قدراً عالياً من التمرئي على شاشة المخيلة. فكل قصيدة من قصائده هي وليمة كاملة من الحواس، يتداخل فيها المرئي بالمسموع، والمشموم بالملموس والمتذوَّق، وتتبادل كلٌّ منها الأدوار مع الأخريات، كقوله «تخيلت حتى جعلت العطور ترى»، أو «ففي الظل يغدو لعطرك صوتٌ»، أو «وريشتي بسعال اللون تختنقُ»، أو كحديثه عن «الرحيل البرتقالي»، و«هسهسات الحلق الطويل».
ولعل نشأة الشاعر في بيئة مدينية أرستقراطية، فضلاً عن عمله الدبلوماسي، قد وفرت له الكثير من مصادر الثقافة والمعرفة، ومكنته من الإلمام بفن الرسم ومن تذوق الموسيقى والعزف على بعض آلاتها في الآن ذاته.
وهو إذ اعتبر الشعر نوعاً من «الرسم بالكلمات»، عرف في الآن ذاته كيف يرشّق بحور الخليل وينوع الأوزان، ويحول قصائده ومقطوعاته إلى حدائق صوتية رافلة بالأجراس والإيقاعات الراقصة. ولعل هذه العناصر مجتمعة، إضافة إلى تناول شعره لمختلف المشاعر والأحاسيس والمواقف الإنسانية المتغايرة، هي التي حملت الكثير من المغنين والمغنيات على تحويل الكثير من نصوصه إلى أغنيات وأناشيد، يرددها ملايين المستمعين المنتشرين على امتداد الأرض العربية.
أحمد عبد المعطي حجازي
شاعر اللغة المتوترة والمكابدات «الليلية»
إذا كان القلق والتوتر هما السمتين البارزتين اللتين تلازمان الشعراء والفنانين في علاقتهم باللغة والحياة، فأكاد أذهب جازماً إلى القول بأن هاتين السمتين لا تنطبقان على شاعر من الشعراء كما هو الحال مع أحمد عبد المعطي حجازي. فوراء الهدوء الظاهري الذي يشي به سلوك الشاعر، ودماثته وابتساماته الودية، ثمة مزيج من الحزن والقلق الغاضب الذي يتبدى في النظرات الحادة، كما في خطوط الوجه وملامحه الحيرى. وإذا كان الشعر من جهته قد تكفل بتفريغ بعض ما تحمله شخصية حجازي من شحنات عصبية عالية، وتحويلها إلى قصائد نابضة بالتوتر والاندفاع العاطفي، فإن البعض الآخر من تلك الشحنات كان يتم تفريغه عن طريق المواقف السياسية الحاسمة، أو الكتابات النقدية الجريئة، بحيث تحوّل صاحب «مرثية العمر الجميل» إلى طرف شبه دائم في معظم المعارك السياسية والفكرية والأدبية التي شهدتها بلاد الكنانة عبر ستة عقود من الزمن.
أحمد عبد المعطي حجازي
الوصف
لم يكن عبد المعطي حجازي الشاعر الوحيد الذي غادر شاباً مسرح طفولته الريفي ليصطدم بجدران الإسمنت والفولاذ في المدن الكبيرة، إذ لا بد للمرء أن يلاحظ أن أكثر من تسعين في المائة من الشعراء ينحدرون من الأرياف التي يسهم فضاؤها المفتوح، وطبيعتها الغنية بالمرئيات، في إلهاب المخيلات، وإغنائها بالصور والأحاسيس والدفق التعبيري. وهم حين يفدون إلى المدن والعواصم الكبرى يعيشون حالة من التمزق الداخلي أو الفصام النفسي بين عالم الأمس الملفوح بنسيم البراءة الرومانسي، والعالم الجديد الذي يتزاحم فيه الآلاف بالمناكب بحثاً عن لقمة العيش، أو عن بريق الشهرة والنفوذ والمال. ورغم أن ظلال هذه التمزقات قد شكلت الهاجس الأبرز عند شعراء الرومانسية الإنجليز في مطالع القرن التاسع عشر، فإنها لم تنعكس في الشعر العربي، باستثناء بعض النصوص المتفرقة للسياب وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور، بالقدر الذي عرفته مع عبد المعطي حجازي في مجموعته الرائدة «مدينة بلا قلب»، حيث يعلن الشاعر بمرارة: «أواجه ليلي القاسي بلا حبّ \ وأحسد من لهم أحبابْ \ وأمضي في فراغ بارد مهجورْ \ غريبٌ في بلاد تأكل الغرباء \ طرقتُ نوادي الغرباء لم أعثر على صاحبْ \ وكان الحائط العملاق يسحقني \ ويخنقني».
لا بد في ختام هذه المقالة من التنويه بأن افتتان عبد المعطي حجازي باللغة لا يدفعه إلى الاستسلام السهل لإغوائها الطاغي، بل هو يحرص كل الحرص على المواءمة بين مقتضيات الجمال التعبيري وقدرة المعنى على التحقق، دون أن يطمسه تعسف الهندسة أو زخرف الأشكال. ولا بد من الإشارة إلى أن اهتمام الشاعر بالفن التشكيلي أسهم إلى حد بعيد في تحويل صوره إلى مشاهد محسوسة قابلة للتمرئي على شاشة المخيلة، وإلى أن اهتمامه بالمسرح أبعد نصوصه عن التنميط ورتابة الصوت الواحد، وحولها إلى محاورات درامية بين الشاعر وذاته، أو بينه وبين العالم، وإلى أن اهتمامه بالموسيقى ساعده على كبح جماح الرخاوة الغنائية في قصائده، وعلى رفد أوزانه بعناصر الغنى الإيقاعي والتناظر الداخلي، وعلى التحكم الماهر بقوافيه، الساكنة بغالبيتها، التي يبرع في استخدامها ووضعها في المكان الملائم.
تعليقات
إرسال تعليق
شكراً لك